تعليق على رواية حكاية قمر
تعد ترجمة عملا أدبيا في حد ذاتها نوعا إبداعيا خاصا، فالنقل من لغة إلى لغة ليس كنقل ثقافة كاملة إلى أخرى؛ وهو ما يجعلنا نستمتع بالنص المترجم وكأنه عمل مستقل بذاته، في هذه السطور سوف أتعرض لتحديات الترجمة وكيفية تغلب المترجم “ميسرة عفيفي” Maisara Afifiعليها. وقبل البدء أود أن أعرض أهمية هذه الرواية بحصولها على جائزة أدبية برغم صغر سن كاتبها، كما أنها كتبت بمستوى لغوي أعقد من المألوف، وقد استخدم كاتبها رموزا صينية (كانجي) كثيرة -قد تصعب على القاريء الياباني نفسه، ولا ننسى أن النص المترجم من التراجم القليلة التي تترجم من نصها الأصلي دون لغة وسيطة كالإنجليزية أو الفرنسية.
اختيار النص الأدبي:
يعد التحدي الأول بالنسبة لأي مترجم هو كيفية اختيار النص الهدف؛ وعادة ما يختار النص الذي لامس في نفسه أحاسيس مختلفة وحفز الكثير من المشاعر لديه، ولعلني صادفت المترجم في رحلة قصيرة له في مصر لأعرف قصة اختيار لهذا العمل؛ على كل لقد أجاد اختيار النص واجتاز التحدي الأول بجدارة.
اختلافات الثقافات:
دعونا نناقش التحدي الثاني وهو اختلاف الثقافات –رغم أن اللغة هي عنصر من عناصر الثقافة، ونظرا لخصوصية اللغة اليابانية نفرد لها تحديا خاصة نفصله على مهل- فبرغم من شرقية الثقافتين إلى أن كلتاهما تطورتا وتأثرتا بشكل مختلف، فنجد مساحة القيم ونوعيتها قد تختلف، وهو أمر طبيعي؛ فبداخل الثقافة الواحدة تقبع العديد من الثقافات الفرعية بدورها، ولذلك نجد اختلاف في مساحة المسموح لكل منهما، كما يجب أن نضع في الحسبان العصر الذي كتبت فيه أحداث الرواية، وعصر الكاتب على حد سواء للتغلغل في نفسية الكاتب أيضا، وليس تحليل العمل المترجم فقط.
وكان وعي المترجم بهذه النقاط حاضرا، فلم يصرح بما يعتمل تماما من أفكار للبطل وترك في إشارات وألفاظ مخلفة فرصة للقاريء حتى يستوعب أبعاد الموقف، وقد يعود هذا للنص الأصلي فهو يحكي أحداثا يابانية في عصر يصعب التصريح فيه بالرغبات المكبوتة، لقد لمس المترجم وترا افتقد إليه الكثيرين، برغم أن الغلاف كشف أكثر مما يريده الكاتب نفسه إلا أنه جاء معبرا، ولعل التشابه بين الثقافتين ظهر في كيفية التشائم ونسج الخرافات وغيرها، كما أن الكاتب نسج ترجمة لرواية محبوكة أضافة للنص بريقا خاصا بـ ميسرة عفيفي ذاته، أليس المترجم هو المتذوق الأول للنص؟!
خصوصية اللغة وتذوق القاريء:
التحدي الثالث هو خصوصية كلتا اللغتين العربية واليابانية، فاللغة العربية بتعدد مفرداتها، وزركشة عباراتها، ومستوياتها اللغوية المتعددة وقواعدها النحوية الفريدة، وما تحويه من معانٍ تعبر عما يجيش بالخلد والقلب بسهولة وبطرق شتى، فهنا يتسع المجال لعبارات العشق لتلك اللغة التي يحفظها القرآن لنا حتى آخر الزمان.
لكن اللغة اليابانة تمتاز بالصعوبة والغموض؛ فالصعوبة لا تكمن في رسم حروفها (هيراجانا وكاتاكانا) أو شخصياتها (كانجي) فقط، فهناك معاني غير مطابقة للعربية، كما أن استخدام المرادف الواحد له العديد من المعاني تختلف بإختلاف الموقف مثل: كلمة التأسف قد تعني الشكر في اليابانية، وهناك صعوبة في تراكيب الجمل؛ فعادة ما يحذف الفاعل وهو ما لا نجده في اللغة العربية التي تميل إلى إظهار الفاعل، لكن إضغامه هكذا له أبعاد أخرى، فإن أضيف الفاعل يتغير معنى الجملة قليلا، وكأنك أخرجت الفاعل من الجماعة، وهو ما لا يليق بك فعله.
وسأذكر مثالا ورد في كتاب ” اللغة اليابانية ومشاعر اليابانيين”: فقد شخص محفظته في القطار فسأل: “أين محفظتي؟”، هنا يستمع الجميع للجملة ويتعاطفون معه وربما يجد من يبحث له عنها أو يرشده لأقرب قسم شرطة، بينما لو سأل “أرأيت محفظتي؟” على الفور يأخذ أقرب شخص السؤال على أنه متهم ويسرع لنفي التهمة عنه، وربما يبعد عنه ولا يحاول مساعدته، فقد تحفز هو وتحفز الآخرون بدورهم علّهم يتهموا بأخذها هم أيضا، عدم التصريح بالفاعل وترتيب الفعل في نهاية الجملة، هما ما يجعلان الغموض أحد أهم ما يميز الثقافة اليابانية؛ لهذا جاءت الرواية مغلفة بغموض ذا مذاق خاص إنه الغموض الياباني الذي عبر عنه المترجم بدقة، فأحيانا يستخدم التقديم والتأخير لهذا الغرض.
ويختلف تذوق القاريء العربي عن غيره من اليابانيين، كما أنه لا يكتفي بالقراءة بل يتدخل في النص فيصعب إرضائه كثيرا، كما أنه قد لا يتقبل كثيرا الغموض أو النهايات المفتوحة، لكن المترجم هنا رسم لنا الأحداث بغموض يثير الفضول لدى القاريء العربي، وأزال عنه لبس الكثير من المواقف محافظا على تفرد النص الأصلي، وهو ما يؤكد إبداعا جديدا.
اختيار استراتيجة ملائمة للترجمة:
ويأتي التحدي الأخير في اختيار استراتيجية ملائمة للنص الهدف، ونظرا لأن اللغة اليابانية بعيدة عن القاريء العربي لجأ المترجم إلى استراتيجية وضع المصطلح وفرضه على الواقع، وقد يكون المترجم قد أسرف في استخدام المصطلحات اليابانية بإضافة الهوامش للشرح، لكنها جاءت في مصلحة النص، فلا يجب التخلي عن هذه الاستراتيجية بل إقصارها على المصطلحات الملحة والتي لا تجد بديلا في اللغة العربية، أو كمداعبة للقاريء العربي بإضافة مصطلحات “كثيرة التكرار” بداخل النص حتى تدخل قاموسه اللغوي بطريقة سلسة.
كما لا يجب إغفال المستوى اللغوي للنص المترجم، والذي أصاب بإختياره الفصحى مع وضع المصطلحات اليابانية ليتناسب النص المترجم مع صعوبة النص الأصلي، نتمنى المزيد والمزيد من التراجم قريبا.
وما يحتاجه سوق الترجمة الآن هو تنشيط الترجمة من لغات متعددة وعدم حصرها في الإنجليزية والفرنسية، كما نحتاج إلى توحيد الجهود على المستوى العربي حتى لا يتم اختيار نفس العمل من قبل أكثر من مترجم في نفس الوقت، وهذا لا يمنع تعدد التراجم للنص الواحد ولكنها محاولة للترشيد، بالإضافة إلى إحياء التراجم من العربية للغات الأخرى
اترك تعليقاً