きもだめし
مررت بتجربة فريدة من نوعها إنها: ” اختبار الشجاعة الياباني”، بالأمس، وهو اختبار سنوي في اليابان ولقد أعددت مؤسسة اليابان لنا اختبارا مصغرا فنحن طلاب المؤسسة ولابد لنا من الاحتكاك بالثقافة اليابانية، فنحن ندرس اللغة من كتاب “الماروجوتوまるごと” ويعني باليابانية؛ كل شئ، كان اختيار الطلاب تبعا لرغبتهم في اختبار شجاعتهم، وكان علينا الالتزام بالقواعد الآتية:
أولا:أن نقسم إلى مجموعات
ثانيا: أن تسير كل مجموعا معا دون أن يتفرق منها ولو عضو واحد
ثالثا: ألا نستخدم المحمول إلا للإنارة فقط حتى لانصرح بما حدث معنا
رابعا: ألا نعامل المعلمين على أنهم معلمين
خامسا: علينا أن ننفذ المهمة بنجاح
سادسا: ألا نأخذ صورا مع المعلمين فلا يوجد وقت لأخذ الصور حتى يتسنى لجميع المجموعات الدخول في الاختبار والذي لن يتعدي في مجمله ساعتين لكل المجموعات.
كانت تلك القواعد البسيطة عالقة في الأذهان، فكان بعض الأساتذة يقسموننا في مجموعات ويحرصون على تذكيرنا بالقواعد وترتيب خروجنا، والبعض الآخر جزء من الاختبار، وكنت أنا قد حفظت كل زوايا المبنى وطرقاته، كما أنني أعرف كل معلم من المعلمين فكان التوتر بعيدا عني قليلا فأنا لا أعلم بالضبط ماذا سيجري.
كنا ننتظر في غرفة مظلمة نستمتع بمشاهدة فيلما مرعبا لندخل في أجواء الترقب، وجاء علينا الدور نحن المجموعة الثامنة، كنا نتكون من ثمانية من البنات بعضنا في المستوى الثاني وبعضنا في المستوى الثالث، كنت أخشى أن يفوتنا ترجمة العبارات اليابانية وكنت أعول على من هن بالمستوى الثالث كي أستوعب المهمة.
حان دورنا وقد ذهبت بالخطأ مجموعة أخرى إدعت أنها “المجموعة الثامنة”، فقد كنا مندمجات مع فيلم الرعب الذي حولناه فيلما كوميديا حتى أن إحدى المعلمات اليابانيات جاءت لترى هذا الفيلم الكوميدي الذي لا يترك لنا مساحة من الوقت لنصمت عن الضحك، وكنا نود أن نرى نهايته، فأكدت لنا المعلمة أننا بعدهم، حينها إعترضت إحدانا: “سنظل المجموعة الثامنة فلنسمي المجموعة السابقة المجموعة السابعة والنصف” وتوالت ضحكاتنا، وقفنا لنستعد للمغادرة وكل منا على وجهه ابتسامة رضا مذكرين بعضنا بالقواعد ومؤكدين إلتزامنا بها.
في بطء حذر مشينا لنصد إلى الدور الذي يعلوه، كان هذا الدور هو مصدر لنا رعب وهو مضاء فهو مهجور ودائما ما كان سلم الطوارئ به مقفل ولا يوجد مخرج منه سوى المصعد، وإذا نزلت به بالخطأ فأماك العديد من الدقائق التي ستمر عليك وكأنها دهرا، كان الدور الرابع مظلما إلا من شمعتين إحدى على الأرض بعيدا ناحية الممر على اليمين والأخرى في يد معلم ياباني كبير في السن يمسك بصورة لطفلة جميلة ويقرب منها الشمعة التى وضعها في قارورة صغيرة حتى لا تحرق الصورة أن تنطفئ من الحركة، ذهبنا في جماعة وكانت أختي الصغرى معني وذكرت نفسي: “لابد وألا أتعامل معه على أنه معلمي”.
أرانا المعلم الصورة شارحا لنا أن تلك الطفلة بالتأكيد جميلة، وأرجح أنه قال لنا أنها ميتة أو أنها تعرضت لمأساة فأنا في المستوى الثاني من اليابانية وما زال أمامي الكثير لأتعلمه، ثم أكد لنا أنه يجب علينا أن نسير في الممر المظلم وأن نتبع التعليمات لنعرف مهمتنا، ولا أخفي عليكم أنني كنت متحمسة جدا وقد بدرت مني أصوات عالية، فكثيرا ما شاهدت الدراما اليابانية المرعبة والتي تضحكني كثير، وقبل أن نمضي سألنا المعلم الكهل: “هلّي أن أعرف عددكم قبل أن تغادورا؟” وأخذ يعدنا واحد إثنان … إلى أن وصل إلى ثمانية وأضاف تسعة فنظرنا جميعا للخلف لنجد الظلمة صديقا وقد صرخت فتاة أو فتاتين جراء إرتعابهن.
تقدمنا جميعا وتمسكت بي صديقة لي فأنا في المقدمة وأخي متخلفة مع صديقة لها فقد أصيبت بحادثة سيارة مؤخرا وترتعب كثيرا وأنا المقدامة التي لا تهاب شيئا الآن، واحتراما لمشاعر صديقتي وروح الجماعة وإلتزاما بالقواعد سرت على مقربة منهم حذرة أيضا، فانسلتت واحدة تنهرنا على بطئنا فذكرناها محذرين ألا تتركنا وتذهب، انتهى الممر وفي نهايته وضعت طاولة عليها شمعة كان بجانبها غرفة على اليسار وبابين على اليمين أحدهما مغلق دائما، وخمت أن في ظل هذه الأجواء سيفتح باب الغرفة، ولكني لزمت الصمت مستمتعة بالحروف اليابانية وبتعريف من هم في المستوى الأعلى بالمهمة: “إصعدوا الدور الخامس، وأطرقوا الباب ثلاثا”، وهنا ونحن نتناقش فيما نحن بفاعلين خرج علينا شبح من باب الغرفة تراه من الظلام شخص أبيض البشرة وتحت عينيه أسود وتقبع البقع الحمراء على خده وجبيه مكونة خطوطا بالعرض كما أن عنقه يعلوه خط وكأنه ذبح، وتصاعدت الأصوات ما بين متحمس مثلي وبين مرتعب.
في بطء مدرسون وصوت عميق تصاعد صوت الشبح الشاب: “هل علمتم ما هو المطلوب؟ فلتصعدوا إذن”، هنا كنا مضطربين هل سنصعد من خلال إحد البابين أم سنعاود، والحق يقال أننا كنا مضحكون جدا، هنا كان الشبح الذي -ما هو إلا معلم بدوره- ابتسم في سرعة ثم ببطء زلق دخل بيننا ليرينا انه لا بد لنا من المعاودة من نفس الممر، وبعدما ارتددنا عائدين إذ بصوت قدمين ورائي فنظرت لأجد الشبح يحفزنا على المسير، كان لدي هاجس بأننا سنقابل شبحا آخر أو أن المعلم الكهل سيتحول لشبح بدوره، لكنه إكتفى بمفاجأتنا وأعطانا كتابا علينا أن نسلمه في الدور الخامس بعد أن تأكد أننا سنطرق الباب ثلاثا قبل الدخول.
صعدنا وقد إزداد حماسنا وبلغ ذروته وتقدمتهم لأطرق الباب ثلاث مرات لكني لم أتلق جوابا، وللمرة الثانية نضطرب ولا نعرف ماذا نفعل، هل هي ثلاث طرقات أم ثلاث مرات في كل مرة عدد طرقات مختلف أب بنغمة ما، ثم فتحت إحدانا الباب لنجد العتمة تعم المكان ولا يضيئ لنا سوى فتحة الباب، دخلنا جماعة وتحفزت للمرر الأيمن ورأيت أن هناك شخصا يقبع في الظلام لكنه شبح مسالم لا يقوى سوى على تغطية وجهه دون كلمة، تخافتت أصواتنا ونحن نقرع جرس الباب ففتح لنا شبح آخر كان موظف أعرفه هو الآخر لم يتنفس فقط ترك لنا أن ندخل إلى المكتبة التي أعرف كل أرففها وكتبها وحجراتها، ونظرت إلى يميني إلى حجرة استراحة الأساتذة لكن الشبح كان على حصيرة يابانية مفروشة أعدت للجلوس عليها تجلس وظهرها لنا وشعرها يتدلى في نعومة معهودة إنها نائبة مدير المؤسسة، صرخت أختي باسمها فذكرتها بالقاعدة الرابعة، ولحسن الحظ تجاهلنا الشبح وقد سأل عن الكتاب الذي قد أعطيته لأحداهن عندما طرقت الباب ولم يرد علي أحد.
اعتقدنا خطأ أنها تريد الكتاب، هي فقط تريد أن تشير لنا أين نضعه، واتبعنا التعليمات: “ضعوا الكتاب في الدولاب الثالث الصف الخامس”، وتساءلت لما تلك الأرقام بالذات، ولسخرية القدر أنه بإضافة ثلاثة لإلى خمسة تصبح ثمانية وهو رقم مجموعتنا، وبعد أن وضعنا الكتاب، صرحنا فرحا فلقد أنهينا المهمة، إلا أنها حذرتنا باليابانية وبالإنجليزية: “لا تخبروا أحدا رجاءً”، طفقنا عائدين، وقد نسيت الشبح الكامن بالخارج، وحذرتنا أختي الصغيرة من أنه سيأتي من اليمين؛ إنه مدير المؤسسة، الذي أكن له كل الاحترام فلا تجد أنه يعامل مرؤوسيه بتعالٍ بل يحترمهم ويعمل بيده لا ينهرهم أبدا، تعالت الصرخات وصيحات الفرح لنخرج وتستقبلنا معلمة ترشدنا لطريقنا بالأسفل لندخل فصلا مختلفا متبعين الأسهم الإرشادية، كنت أولى من دخل إلى الفصل لتنتظرنا المفاجأة.
كان على السبورة بصمات يد ملطخة بالدماء وهذا بالنسبة لي نذير شبح آخر يقبع في الغرفة فأصدرت صوتا دالا على الترحيب فأنا أعلم أنها أو أنه يسكن خلف السبورة التي متروك خلفها صناديق فارغة، فمن المستحيل أن يترك اليابانيون الفصل دون نظام، لكنها لم تظهر بل أتت معلمتي في المستوى الأول لتسألنا رأينا في اليوم كله، وتسابقنا لنشرح لها تجربتنا الرائعة وتهافتت الصيحات الفرحة لما بذلناه في مهمتنا من جهد حتى قلت لهم –وأنا أتساءل عن كون تخميني صحيحا أم أنه لا يوجد شبح في الغرفة: “نعم إننا لا نهاب شيئا، فلم نخف أبد” هنا ظهرت الشبح نسخة طبق الأصل أو هكذا زعمنا من الشبح الأخير فقد كان شعرها أقصر قليلا من نائبة المدير وإن كانت يابانية هي الأخرى، هنا قالت لنا المعلمة: “لم يكن عليكن إخباري”، فقاطعتها زميلتي في المجموعة: “نعم فلقد أوصتنا ألا نقول شيئا وها نحن أفشينا السر”، لا أحسب أنني سأنسى هذا اليوم أبدا، فشكرا لأساتذتي وشكرا لمؤسسة اليابان في القاهرة.
اترك تعليقاً