إن للدين الإسلامي ميزة لن تجدها في أي ديانة أخرى –خاصة الموضوعة منها- وهي التكامل في المنهاج ومراعاة النفس إلى أقصى درجة؛ وهنا أتكلم عن الإسلام الحنيف بعيدا عن الممارسات الخاطئة والإسلام منها براء، فالإسلام يعالج قطبي العلاقة كنصرة القوي والضعيف على حد سواء؛ فعن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ”، رواه البخاري (2444)؛ وهنا نجد معاونة الإسلام لمن وقع عليه الظلم –وهي الممارسة الأكثر شهرة بين الديانات الوضعية والسماوية معًا؛ بل وتتسق مع الفطرة السليمة للبشر، لكن الرسول ﷺ أنبأنا بدورنا في نصر الأخ المسلم وإن كان ظالما بدرء ظلمه فإن تجبر فلا مانع من استخدام القوة معه؛ فالإسلام لا يعرف الوساطة أو التراخي مع حدود الله.
واليوم أحدثكم عن أكثر الآداب الإسلامية قربًا لقلبي ألا وهي آداب العطاء والأخذ في الإسلام؛ فلم يكن الإسلام كدين يترك المعاملات اليومية بلا رفعة أخلاق أو مراعاة للمشاعر والمفاهيم الإنسانية؛ فقد جاء الإسلام للعالمين؛ أي ليس مقصورا على جنس بعينه أو لون أو عرق أو فئة دون أخرى، ولهذا لابد وأن يتناسب مع رقي البشر في كل زمان ومكان.
أولاً: آداب العطاء:
باديء ذي بدء على المسلم أن يعلم جيدًا أن أمره كله لله، وأن الله سبحانه وتعالى هو العاطي وهو الآخذ وإليه المآب؛ وفي ذلك معنى متصل حيث أن الله سبحانه وتعالى بيده وحده عطاء المال والبنين والعلم، ووجب علينا شكره، ومن سبل الشكر الصدقات تلك التي يربيها الله سبحانه وتعالى، لكن هل فكرت يومًا كيف تعطي ليجزل لك الله العطاء؟ فعن حكيم بن حزام أن النبي ﷺ قال: “اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغنِ يغنه الله”، متفق عليه، وفي ذلك تأكيد على العطاء وليس شرطا أن يقتصر العطاء على كل من لديه فائض من المال أو الزروع؛ لكن الصدقات تنقي النفس وتهذبها وتجعلنا نفكر في الآخرين أيضًا، ففي حديث قدسي قال الله تعالى: ” أُحبُّ ثلاثًا، وحبي لثلاث أشد: أحب الطائعين, وحبي للشاب الطائع أشدُّ, وأحب الكرماء, وحبي للفقير الكريم أشدُّ, وأحب المتواضعين, وحبي للغنيِّ المتواضع أشدُّ, وأكره ثلاثًا، وكرهي لثلاث أشد: أكره العصاة, وكرهي للشيخ العاصي أشدُّ, وأكره المتكبِّرين, وكُرهي للفقير المتكبِّر أشدُّ, وأكره البخلاء, وكُرهي للغني البخيل أشدُّ”، صدق رسول الله ﷺ فيما بلغ عن رب العزة.
فما آداب العطاء؟ أولاً علينا بتهذيب النفس فليس شرطا أن الأفضلية لك ما دمت تعطي إن شاب الرياء نفسك أو أصابك العُجب، فعليك أن تتوخى الحذر في كل أمر، ثانياً عندما تعطي الفقير باعد بينك وبين المَّنِ والأذي؛ بل إختر من الكلمات ما تشفي به حاجة الفقير أو المحتاج، ثالثاً عندما تعطه من المال أو الصدقة لا تعطه ويدك من أعلى بل اجعل يدك من أسفل حتى لا يصادف نفسك هوًا أو تجرح مشاعر المحتاج، رابعاً إختر دائما الأفضل لتتصدق به؛ فلقد كانت السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تطيب الدراهم والدنانير قبل أن تتصدق بها، وكذلك فإن السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها وزوجها سيدنا على كرم الله وجهه كانا يتصدقان بأفضل ما لديهما، والتصدق في الخفاء من أجمل أنواع الصدقات ففي سورة البقرة يقول ربنا سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم “إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿٢٧١﴾ صدق الله العظيم.
ثانياً: آداب الأخذ:
فكما يوجد آداب للعطاء فللأخذ أيضاً آداب في الإسلام؛ فليعلم المحتاج هو أيضاً أن الأمر كله بيد الله، وأن له حق في مال الغني أقره الله سبحانه وتعالى في أكثر من موضع ونذكر منها سورة الذاريات: بسم الله الرحمن الرحيم “وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) صدق الله العظيم؛ فلم يأتِ الإسلام ليذل المحتاج أو يجرحه، لكن عليه أن يعمل حتى يتعبد إلى الله ويكفي حاجته، وذلك حتى لا تعتاد نفسه على الأخذ دون عطاء، فاليوم لا تملك وغداً تملك؛ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سيدنا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى ثَلَاثَةَ نَفَرٍ فِي الْمَسْجِدِ مُنْقَطِعِينَ لِلْعِبَادَةِ فَسَأَلَ أَحَدَهُمْ مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُ؟ فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ، وَهُوَ يَأْتِينِي بِرِزْقِي كَيْفَ شَاءَ. فَتَرَكَهُ وَمَضَى إلَى الثَّانِي، فَسَأَلَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ لَهُ أَخًا يَحْتَطِبُ فِي الْجَبَلِ فَيَبِيعُ مَا يَحْتَطِبُهُ فَيَأْكُلُ مِنْهُ وَيَأْتِيه بِكِفَايَتِهِ فَقَالَ لَهُ: أَخُوك أَعْبَدُ مِنْك. ثُمَّ أَتَى الثَّالِثَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: إنَّ النَّاسَ يَرَوْنِي، فَيَأْتُونِي بِكِفَايَتِي، فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ، وَقَالَ لَهُ اُخْرُجْ إلَى السُّوقِ، أَوْ كَمَا قَالَ؛ فليس المقصود ان تنتظر حق الله لغني عنده بل عليك العمل والتعبد به حتى تنظبط عمارة الأرض.
فما آداب الأخذ تلك؟ أولاً ألا يتجبر المحتاج وأن يصيبه الخيلاء لأن هذا النصيب حقه الذي لابد وللغني أن يعطيه، فهذا اختبار للغني الذي شبع وفاضت أمواله عن حاجته أن يتعلم كيف يعطي فلا تنفره من التصدق، وهو اختبار للفقير ليصبر على فقره في نفس الوقت، كما لا يجب عليك أن تذل لأنك محتاج فلا تعطِ حجما لإنسان أكبر منه، فلله الأمر من قبل ومن بعد، ثانياً قل كلمة حسنة فالشكر والتصدق بالكلام الحسن له أيضاً من الثواب ما يجعل المسلمين متكاملين لا يقدر على تفريقهم شيء، وهنا أحب أن أذكر أن هناك نوعان من المحتاجين أحدهما السائل والآخر المتعفف، والأول مكروه في الإسلام فليس على المسلم أن يمد يده إلا لحاجة ولكن كثرة السؤال جعل هؤلاء في شبهة وأصبح رد السائل ونهره أقرب للفرد من إعطائه، غير أن رد السؤال ليس من مكارم الأخلاق، ولابد وأن تعرف أنك مثاب وإن كان السائل ليس محتاجاً، فقد أُثبت على النية والعمل، وإلا فلا تنهره فقط إصرفه بلين، أما المتعفف فعلينا التحري عنه والسؤال عن حاجته حتى لا يصبح منا من لا يجد قوت يومه ونحن في رفاهية.
لقد جعل الإسلام من المسلم إنسان ذا نفسية مهذبة، وأوجد الرحمة والتسامح في المعاملات، وندعو الله أن ثبتنا على دينه وأن يجعلنا نتفكر في خلقه.
***
من الفقير, ومن المسكين؟ اختلف الفقهاء وعلماء اللغة حول مفهومي الفقير والمحتاج وقد اختلف كثيرا هذه الأيام لكنني أميل إلى هذا التعريف “الفقير من لا يجد قوت يومه، والمسكين من عنده قوت يومه فقط،” وبهذا يكون كلاهما محتاج.
اترك تعليقاً